ولجميع صفاته العلى وأسمائه الحسنى فلا أمد لعلمه ، ولا نهاية ولا مدد ولا غاية. وشاهد هذا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٧] الآية ، وهذا لأنّ العبد لا يكون ذاكرا من وجوه القدرة والحكمة كلّها إلّا ما علم منها والله تعالى ذاكر لها كلّها ، ويكون هذا كما يقال فلان أعلم بالله من فلان ، ويراد أنه قد عرف أنّ الدّنيا محدثة من وجوه عدة ، وأنّ الآخر لا يعرف ذلك إلا من وجه واحد ، وقد ظهر بما بيّناه الفصل بين ما يسأل عنه في الموضعين جميعا.
فصل في تبيين المحكم والمتشابه
من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) والحكمة في إنزاله مقسما بين الوجهين المذكورين والكلام في المعارف والمعجز.
اعلم أنّ الله تعالى لمّا ابتلى العقلاء بتكاليف الدّين بعد إزاحة العلل وتسهيل السّبل وبعث الرّسل رتّب في مراسمه مراتب ، وجعل لكلّ مرتبة قدرا من الجزاء والمثوبة ترغيبا في الاستكثار من طاعته ، وحضّا على التّنافس في أشرف المنازل لديه ومن أجل تلك المراسم ما ندب إليه من تدبّر كتابه الحكيم الجامع للأوامر والنّواهي وأصول الحلال والحرام ، والمندوب إليه والمباح ، وقصص الأمم السّالفة ، وأخبار الأنبياء معهم ، والمواعظ والأمثال ، والحكم والآيات والنّذر والمثلات ، والعبر والامتنان بأنواع النّعم ، والإخبار بالشيء ، قبل كونه والتّنبيه على مغيبات الأمور وسرائر القلوب من دونه ، هذا وقد أنزله علما لنبيّه يتحدى زمان الفصاحة ، وأوان التّبلغ بالبلاغة جعل بعضه جليا واضحا وبعضه خفيّا متشابها ، ليعمل من تسمو نفسه إلى أعلى الدرجات فكره ، فيمتاز في العاجل بما يستنبطه ويثيره من جليل العلم ودقيقه عن غيره ممن لم يسع سعيه ، وإن جاهد في ربه ويجتاز في الأجل عند الله من الزّلفة وجزيل المثوبة ما يقرب من غايات الأنبياء وذوي العزم والنّصيحة فلولا حكمة الله فيما ذكرته لبطل التّفاضل فيما هو أشرف وتدانت الأقدار فيما هو أفخم.
ألا ترى أنّ الصّبر في أعمال القلب وأعمال الفكر وكد الرّوح لنتائج النّظر ليس كالصّبر في إتعاب الجوارح وإنصاب الآراب والمفاصل ، لذلك قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] فأما ما روي من أن لكل آية ظهرا وبطنا ومطلعا فالمعنى لكلّها لفظ ومعنى ، ومأتى أي طريق يؤتى منه فيتبيّن علمه من ذلك الطّريق وقيل أيضا فيه: الظّهر للإخبار عن مخالفة الأمم وهلاكها والبطن يكون تحذيرا أي لا تفعلوا فعلهم فتهلكوا هلاكهم.