نشاهد له مثلا ولا نظيرا أن ننفيه من أجل ذلك إذ كان يجوز أن نثبت بالأدلّة ما لا نظير له كما مثّلناه.
وإنّما يجب تكذيب من وصف الغائب لصفة الشّاهد ثم أزال عنه المعنى الذي استحقّ الشّاهد به تلك الصفة ، فأمّا متى أثبت في الغائب شيئا مثبتا من غير أن يكون بصفة المشاهد الذي وجبت له هذه الصّفة لعلّة ، وقال مع ذلك : إنه غير مثبت لما شوهد لم يجز أن نبطل قوله بما شاهدنا ، إذ كان يجوز أن يكون ما ادّعاه خلافا لما شاهدناه ، كما لم يكن للأعمى إنكار الألوان إذا أخبرناه بها من حيث كانت مخالفة لما شاهده بسائر جوارحه ، ولم يكن لأحد أن ينكر الحياة والقدرة لأنهما خلاف ما شاهده ، ولكن يجب أن يطالب بالدّلالة على صحّة الدّعوى ، فإذا ثبتت ثبت مدلولهما ، وإلا سقطت الدعوى ، وهذا أصل القول في استشهاد الشّاهد على الغائب فاعلمه.
فصل في أسماء الله وصفاته وأحكامه
(وبيان الأصوات كيف تكون حروفا ، والحروف كيف تصير كلاما)
اعلم أنّ الأصوات جنس من الأعراض تحته أنواع تعلم ، فإذا توالى حدوثها منقطعة بمخارج الفم وما يجري مجراها سمّيت حروفا ، لذلك قيل : الكلام (مهمل) و (مستعمل). (فالمستعمل) ما تناولته المواضعة أو ما يجري مجراها من توقيف حكيم ، فجعل عبارة عن الأعيان أنفسها وعنها بأحوالها. (والمهمل) ما خالف ذلك ، وإنما قلنا هذا لأنّ جنس الصّوت لا يقتضي كونه حرفا ولا كلاما متى لم تطرأ المواضعة عليها ، وما جرى مجراها ، والمواضعة لا تصح إلا مع القصد إليها لذلك قيل : ما ينقسم إليه الكلام من الخبر والأمر والنّهي والاستخبار لا يكاد يحصل مفيد إلا بإرادة غير القصد إلى المواضعة ، لهذا متى ورد الكلام من سفيه لم يفد السّامع شيئا ، كما يفيده إذا ورد من الحكيم على المخاطب العارف بالمواضعات لمّا تعذرت معرفة قصده وصار الصّدق والكذب يستوي حالاتهما وتقام صور أنواع الكلام بعضها مقام الآخر حتى يوجب ذلك التّوقف عن قبول الأخبار وترك القطع على ما يسمع منها إلا مع البينة.
واعلم أن الحاجة إلى المواضعة بالأصوات هي البيان عن المراد لما كان الكلام المستعمل تنبها عليه ، فلذلك يستغني الحكيم فيما عرف مراده عن الخطاب إلا عند كونه لطفا في فعل المراد ومتى أمكنه بالإشارة والإيماء بيان غرضه عدل عن الخطاب إلا أن يكون لطفا كما ذكرناه. ولما كان الأمر على ذلك اختلفت العبارات لاختلاف المراد واحتيج إلى التبين بعد ذلك ، إذ كان الكلام بنفسه لا يدل على ما وضع له ولا بالمواضعة أو التوقيف.