إلى الغزّالىّ سرّا ؛ لإنافته عليه فى سرعة العبارة ، وقوة الطبع ، ولا يطيب له تصدّيه للتصانيف ، وإن كان متخرّجا به ، منتسبا إليه ، كمالا يخفى من طبع البشر ، ولكنه يظهر التبجّج به ، والاعتداد بمكانه ، ظاهرا خلاف ما يضمره.
ثم بقى كذلك إلى انقضاء أيام الإمام ، فخرج من نيسابور ، وصار إلى العسكر ، واحتلّ من مجلس نظام الملك محلّ القبول ، وأقبل عليه الصاحب لعلوّ درجته ، وظهور اسمه ، وحسن مناظرته وجرى عبارته.
وكانت تلك الحضرة محطّ رحال العلماء ، ومقصد الأئمة والفصحاء ، فوقعت للغزّالىّ اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة ، وملاقاة الحصوم اللّدّ ، ومناظرة الفحول ، ومنافرة الكبار.
وظهر اسمه فى الآفاق ، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق ، حتى أدّت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد ، للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النّظاميّة بها ، فصار إليها ، وأعجب الكلّ بتدريسه ، ومناظرته ، وما لقى مثل نفسه ، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق.
ثم نظر فى علم الأصول ، وكان قد أحكمها ، فصنّف فيه تصانيف.
وجدّد المذهب فى الفقه ، فصنّف فيه تصانيف. وسبك الخلاف ، فحرّر فيه أيضا تصانيف.
وعلت حشمته ودرجته فى بغداد ، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر ، والأمراء ، ودار الخلافة.
فانقلب الأمر من وجه آخر ، وظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة ، وممارسة الكتب المصنّفة فيها ، وسلك طريق التزهّد والتألّه ، وترك الحشمة ، وطرح ما نال من الدرجة ، والاشتغال بأسباب التقوى ، وزاد الآخرة.
فخرج عما كان فيه ، وقصد بيت الله ، وحجّ. ثم دخل الشام وأقام فى تلك الديار قريبا من عشر سنين ، يطوف ، ويزور الشاهد المعظّمة.
وأخذ فى التّصانيف المشهورة ، التى لم يسبق إليها ، مثل : إحياء علوم الدين والكتب المختصرة منها ، مثل الأربعين وغيرها من الرسائل ، التى من تأمّلها علم محلّ الرجل من فنون العلم.
وأخذ فى مجاهدة النفس ، وتغيير الأخلاق ، وتحسين الشمائل ، وتهذيب المعاش ، فانقلب شيطان الرّعونة ، وطلب الرياسة والجاه ، والتخلق بالأخلاق الذميمة ، إلى سكون النفس ، وكرم الأخلاق ، والفراغ عن الرّسوم والتّرتيبات ، والتّزيّى يزىّ الصالحين ، وقصر الأمل ، ووقف الأوقات على هداية الخلق ، ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة ، وتبغيض الدنيا ، والاشتغال