رحالنا بوادى أبو بروشن بعد مسيرة عشر ساعات. وتقوم هنا سلسلة جبال تمتد صوب الشمال الغربى. وفى رمال هذا الوادى الجرداء تنمو بعض أشجار السلم ، وهى ضرب من السنط يطريه العرب لشدة صلابته فيصنعون منه القنا ، ومن أغصانه الرفيعة عصيا فى غلظ إبهام اليد ، طول العصا منها ثلاث أقدام ، وهم يثنون طرفها فى النار وخشبها ما يزال أخضر ، ثم يدعكونها مرارا بالشحم حتى تغدو قوية ثقيلة ، ويحمل الرجل منهم عصا من هذه العصى التى يسمونها سلمة (١). ويؤثر البشاريون فى صنع هذه العصى شجرا آخر غير السلم يدعونه الدّضه ، وينمو على مقربة من البحر الأحمر. وفى وادى أبو بروش لقينا أول فوج من الغزلان مذ بارحنا دراو ، ولا يتوقع المرء أن يكثر الحيوان البرى حيث لا يكون الماء إلا فى الآبار العميقة.
١٣ مارس ـ استأنفنا المسير قبل شروق الشمس ، وبعد ثلاث ساعات بلغنا وادى أم برد ، وهو واد فسيح طيب يزخر بالشجر. وحلقت فوق رءوسنا أسراب كبيرة من طيور بيض ، فى حجم الإوز كانت تتجه صوب الشمال. ويسمى العرب هذا الوادى «أم برد» لأن الهواء فيه يهب باردا حتى فى الصيف ، وهو مفتوح صوب النيل ، ومنه تهب الريح عادة فى هذا الفصل. ووجدنا الوادى حين مررنا عليه فى الصباح الباكر قارس البرد حتى اضطررنا عند وقوفنا به هنيهة أن نستدفىء بنار أشعلناها فى بعض الأشجار الجافة التى تنتشر فى الوادى. قضينا فيه ساعتين ، وعبرنا سلسلة من التلال ، ثم وقفنا بواد آخر لنستريح ساعة الظهيرة. وكانت هذه الوقفات مثار النزاع والشجار طوال الرحلة ، ذلك أن فتيان القافلة كانوا إذا علموا أن شيوخها يزمعون الوقوف بواد ساروا إليه حثيثا ليسبقوا غيرهم إلى أكبر شجرة أو صخرة معلقة يتفيأون ظلها هم وجماعتهم. وكانوا كل يوم يختلفون فيما بينهم أيهم سبق صاحبه إلى الشجرة؟ أما أنا فطالما أقصونى عن الظل الوارف لأصلى نار الشمس المحرقة ، وكنت فى العادة أقضى ساعات الظهيرة فى كرب شديد وألم ممض : ففضلا عن تعرضى للقيظ كان علىّ أن أطهو طعامى ،
__________________
(*) السلمة معروفة فى كافة أرجاء النوبة والتاكة وسواكن ، وقل أن نجد رجلا لا يحمل سلمه إن لم يحمل رمحا.