ومما برعوا فيه علم الكتاب ، انفردوا بإقرائه مذ اعصار دون غيرهم من ذوي الآداب ، أثاروا كنوزه ، وفكوا رموزه ، وقربوا قاصيه ، وراضوا عاصيه ، وفتحوا مقفله ، وأوضحوا مشكله ، وأنهجوا شعابه ، وذللوا صعابه ، وأبدوا معانيه في صورة التمثيل ، وأبدعوه بالتركيب والتحليل. فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب ، إذ هو المطلع على علم الإعراب ، والمبدي من معالمه ما درس ، والمنطق من لسانه ما خرس ، والمحيي من رفاته ما رمس ، والراد من نظائره ما طمس. فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير ، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير ، أن يعتكف على كتاب سيبويه ، فهو في هذا الفن المعوّل عليه ، والمستند في حل المشكلات إليه. ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلا عن المماثلة ، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة ، وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء ، وأنحاز للفهماء ، وأرغب في مجالسهم ، وأنافس في نفائسهم ، وأسلك طريقهم ، وأتبع فريقهم ، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام ، ولا أتوقل إلا ذروة علام. فكم صدر أودعت علمه صدري ، وحبر أفنيت في فوائده حبري ، وإمام أكثرت به الإلمام ، وعلام أطلت معه الاستعلام ، أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون ، وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون ، وأرتع في رياض وارفة الظلال ، وأكرع في حياض صافية السلسال ، وأقتبس بها من أنوارهم ، وأقتطف من أزهارهم ، وأبتلج من صفحاتهم ، وأتأرج من نفحاتهم ، وألقط من نثارهم ، وأضبط من فضالة إيثارهم ، وأقيد من شواردهم ، وأنتقي من فرائدهم. فجعلت العلم بالنهار سحيري ، وبالليل سميري ، زمان غيري يقصر ساريه على الصبا ، ويهب للهو ولا كهبوب الصبا ، ويرفل في مطارف اللهو ، ويتقمص أردية الزهو ، ويؤثر مسرات الأشباح ، على لذات الأرواح ، ويقطع نفائس الأوقات ، في خسائس الشهوات ، من مطعم شهي ، ومشرب روي ، وملبس بهي ، ومركب خطي ، ومفرش وطي ، ومنصب سني ، وأنا أتوسد أبواب العلماء ، وأتقصد أماثل الفهماء ، وأسهر في حنادس الظلام ، وأصبر على شظف الأيام ، وأوثر العلم على الأهل والمال والولد ، وأرتحل من بلد إلى بلد ، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار ، وقلت ما بعد عبادان من دار ، هذه مشارق الأرض ومغاربها ، وبها طوالع شموسها وغواربها ، بيضة الإسلام ، ومستقر الأعلام ، فأقمت بها لمعرفة أبديها ، وعارفة علم أسديها ، وثأي أرأبه ، وفاضل أصحبه ، وبها صنفت تصانيفي ، وألفت تآليفي ، ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب ، المقرب من رب الأرباب ، المرجو أن يكون نورا يسعى بين يديّ ، وسترا من النار يضفو عليّ. فما لمخلوق بتأليفه قصدت ، ولا غير وجه الله به