وهل ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال : «لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ، لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١). وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة ، وبعضهم يقول يوما واحدا ، وبعضهم عشرا ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفى عنهم الهداية والربح ، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا ، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا ، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيدا تغليبا للخير ، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا : أحدها : أنها نزلت في المنافقين. الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث : في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه : أنه لقي نفرا من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : ألي تقول هذا ، والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.
__________________
(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٥.