أعمى إذا ما جارتي برزت |
|
حتى يواري جارتي الخدر |
وأصم عما كان بينهما |
|
أذني وما في سمعها وقر |
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين ، وليس من باب الاستعارة ، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه ، صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لو لا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :
لدي أسد شاكي السلاح مقذف |
|
له لبد أظفاره لم تقلم |
وحذف المبتدأ هناك لذكره ، فلا يقال : إنه من باب الاستعارة ، إذ هو كقول زهير :
أسد علي وفي الحروب نعامة |
|
فتخاء تنفر من صفير الصافر |
والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز ، وذلك لعدم قبولهم الحق. وقيل : وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والتعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك ، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم. والعرب إذا سمعت ما لا تحب ، أو رأت ما لا يعجب ، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه. قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (١) ، وقالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (٢) الآية. قيل : ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم ، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالا من البهائم وأشبه حالا من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر. فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى ، ولذلك لما أراد ابراهيم ، على نبينا وعليهالسلام ، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٣)؟ وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء ، وإن كان قد قاله بعض المفسرين. قال : دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك ، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٤). وقرأ عبد الله بن مسعود ، وحفصة أم المؤمنين : صما بكما عميا ، بالنصب ، وذكروا في نصبه وجوها : أحدها : أن يكون مفعولا. ثانيا لترك ، ويكون في ظلمات متعلقا بتركهم ، أو في موضع
__________________
(١) سورة لقمان : ٣١ / ٧.
(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٥.
(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤٢.
(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.