انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني. أما في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فصحيح ، وأما في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فيحمل على الغالب ، لأن هذه السورة مدنية ، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم ، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي والرياشي ، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه ، وهي في موضع نصب ، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب ، فلذلك جاز مراعاة اللفظ ، ولا يجوز نصبه على الموضع ، خلافا لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف ، فإذا قال : يا أيها الرجل ، فتقديره : يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة ، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال : المؤمنون عابدون ، فكيف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة ، فصح مواجهة الكل بالعبادة ، وانظر لحسن مجيء الرب هنا ، فإنه السيد والمصلح ، وجدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب ، إن كان عاما ، كان قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة مدح ، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح ، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم ، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره ، (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١) ، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة ، والتمييز عن غيرهم بالعقل ، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره ، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة ، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع ، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا : المحبة ثلاث ، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده ، وأدغم أبو عمرو خلقكم ، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة ، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.
__________________
(١) سورة النمل : ١٦ / ١٧.