والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح ، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار ، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة ، انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقرا للماء إذا كان ذلك الشكل ثابتا غير دائر ، أما إذا كان دائرا فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.
وقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بِناءً) : هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (١) ، شبهت بالقبة المبنية على الأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، والسماء للأرض كالسقف ، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل : سماها بناء ، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء ، كالخيام والمضارب والقباب ، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته ، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع ، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته ، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها ، والسماء في غاية ما يكون من العظم ، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض ، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصى عددها ، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها ، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات ، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (٢). وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب ، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة. فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو ، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول ، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة ، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لو لا عطفها ، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء ، لأنه لو تأخر لكان نعتا فلما تقدم انتصب على الحال ، ومعناها إذ ذاك التبعيض ، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء ، والباء معناها
__________________
(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.
(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.