قال ابن فورك : ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين ، المعنى : فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد. قال أبو محمد بن عطية ، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرف من جعل ندا ، انتهى. وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان ، خطأ في التركيب ، لأن أعطى لا تنوب إنّ ومعمولاها مناب مفعوليها ، بخلاف ظن ، فإنها تنوب مناب مفعوليها ، ولذلك سر ذكر في علم العربية.
قال بعض المفسرين : اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي : الخلقة البشرية ، والبنيتان الأرضية والسماوية ، لأنها محل الاعتبار ومسرح الأبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية ، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية ، وانفراده بخلقها وأحكامها ، وقدم الخلقة البشرية ، وإن كانت للعالم الأصغر ، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكر جنان ، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام ، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه. قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) ، أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به ، قال : وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماما من غيرها من المخلوقات ، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه. قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٢) الآية ، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعما يمتن بها عليهم ، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة. ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكانا يستقرون عليه ، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك ، فيستقرون فيه جلوسا ونوما وتصرفا في معايشهم ، وجعل منه سهلا للقرار والزرع ، ووعرا للاعتصام ، وجبالا لسكون الأرض من الاضطراب. ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم ، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم ، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم ، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر ، ثم نبههم على النعمة العظمى ، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات ، وأجناس الثمرات. وقدم ذكر الأرض على السماء ، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة ، وأتم في النعمة وأكبر في
__________________
(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٢١.
(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٠.