فهذه سبعة وجوه ، لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها ، ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته ، ولا يمتطي منه صهوته ، إلا من كان متبحرا في علم اللسان ، مترقيا منه إلى رتبة الإحسان ، قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب ، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلباب ، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس ، وهجر الأهل والولد والأنيس ، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع ، وفي حياضه أصفى مكرع ، يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام ، ويترشف كؤوس رحيق له المسك ختام ، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام ، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام ، يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد ، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد.
وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم ، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم ، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب ، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب ، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار ، وتكرار محفوظ على مر الأعصار ، ولتباين أهل الإسلام في إدراك فصاحة الكلام ، وما به تكون الرّجاجة في النظام ، اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوقل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر. ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب. فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته. والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطؤ جارية فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر قاله ، ذكر الله فيه ورسوله وكتابه ، فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق.
وحكى لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر ، رحمهالله تعالى عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة ، ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية ، أنه كان يقول له : يا أبا جعفر ، لا أدرك فرقا بين القرآن وبين غيره من الكلام. فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة. وكان بعض شيوخنا ممن له تحقق