بالمعقول ، وتصرف في كثير من المنقول ، إذا أراد أن يكتب فقرا فصيحة ، أتى لبعض تلامذته وكلفه أن ينشئها له. وكان بعض شيوخنا ، ممن له التبحر في علم لغة العرب ، إذا أسقط من بيت الشعر كلمة أو ربع البيت ، وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك ، وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكنا أو سكنت له محركا في بيت أدرك ذلك بالطبع وقال إن هذا البيت مكسور ، ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء ، إذا كان فيه زحاف ما ، وإن كان جائزا في كلام العرب ، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه. هذا ، وإن كان لا يفهم معنى البيت ، لكونه حوشى اللغات أو منطويا على حوشى. فهذه كلها من مواهب الله تعالى ، لا تؤخذ باكتساب ، لكن الاكتساب يقويها ، وليس العرب متساوين في الفصاحة ، ولا في إدراك المعاني ، ولا في نظم الشعر ، بل فيه من يكسر الوزن ، ومن لا ينظم ولا بيتا واحدا ، ومن هو مقل من النظم ، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك ، حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة ، وينقح الشاعر منهم القصيدة حولا حتى يسمى قصايد الحوليات ، فهم مختلفون في ذلك.
وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت ، فوفق وأسلم ، وآخر أدرك إعجازه فكفر ، ولج في عناده بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر ، وآخر لم يدرك إعجاز القرآن ، كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها ، وكحال أكثر الناس ، فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة. فمن أدرك إعجازه ، فوفق وأسلم بأول سماع سمعه ، أبو ذر ، رضياللهعنه ، قرأ عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أوائل فصلت آيات فأسلم للوقت ، وخبره في إسلامه مشهور.
وممن أدرك إعجازه وكفر عنادا عتبة بن ربيعة ، وكان من عقلاء الكفار ، حتى كان يتوهم أمية بن الصلت أنه هو ، يعني عتبة يكون النبي المنبعث في قريش. فلما بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، حسده عتبة وأضرابه ، مع علمهم بصدقه ، وأن ما جاء به معجز. وكذلك الوليد بن المغيرة ، روي عنه أنه قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنّه يعلو وما يعلى ، ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر ، حتى قال ، ما حكى الله عنه : إن هذا إلّا سحر يؤثر ، إن هذا إلّا قول البشر.
وممن لم يدرك إعجازه ، أو أدرك وعاند وعارض ، مسيلمة الكذاب ، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه ، انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة ، بحيث صارت هزأة للسامع ،