وكذلك أبو الطيب المتنبئ. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني ، في كتاب الانتصار في إعجاز القرآن ، شيئا من كلام أبي الطيب مما هو كفر. وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب ادعى النبوة ، واتبعه ناس من عبس وكلب ، وأنه اختلق شيئا أدعى أنه أوحى إليه به سورا سماها العبر ، وأن شعره لا يناسبها لجودة أكثره ورداءتها كلها ، أو كلاما هذا معناه ، وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام ، ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء الله تعالى وأعطى كل أحد.
ولنبين أن علم التفسير ليس متوقفا على علم النحو فقط ، كما يظنه بعض الناس ، بل أكثر أئمة العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة ، ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير ، وقل أن ترى نحويا بارعا في النظم والنثر ، كما قل أن ترى بارعا في الفصاحة يتوغل في علم النحو. وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو ، وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب ، فضلا عن أن يعرف مدلولها ، أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان. فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير؟.
ولله در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في التفسير ما نصه : إن إملاء العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، من غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها. علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه ، وإجالة النظر فيه ، كل ذي علم ، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن ، فالفقيه ، وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلم ، وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار ، وإن كان من ابن القرية أحفظ ، والواعظ ، وإن كان من الحسن البصري أوعظ ، والنحوي ، وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي ، وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، إلّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ ، كثير المطالعات ، طويل المراجعات ، قد رجع زمانا ورجع إليه ، ورد ورد عليه ، فارسا في علم الإعراب ، مقدما في جملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ، يقظان النفس درا كاللمحجة وإن لطف شأنها ، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها ، لا كزا جاسيا ، ولا غليظا جافيا ، متصرفا ذا