الإدراك ، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، من غرائب التركيب ، وانتزاع المعاني ، وإبراز النكت البيانية ، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه ، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها ، ولا عنصره يحركه إليها ، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب ، فإن ذلك كان مركوزا في طباعهم ، يدركون تلك المعاني كلها ، من غير موقف ولا معلم ، لأن ذلك هو لسانهم وخطتهم وبيانهم ، على أنهم كانوا يتفاوتون أيضا في الفصاحة وفي البيان. ألا ترى إلى قوله صلىاللهعليهوسلم ، حين سمع كلام عمرو بن الأهتم في الزبرقان : «إن من البيان لسحرا». وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة.
وقد آن أن نشرع فيما قصدنا ، وننجز ما به وعدنا ، ونبدأ برسم لعلم التفسير ، فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له ، فنقول : التفسير في اللغة الاستبانة والكشف. قال ابن دريد : ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسره وكأنه تسمية بالمصدر ، لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعله ، نحو جرب تجربة ، وكرم تكرمة ، وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل ، كقوله تعالى : (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (١). وينطلق أيضا التفسير على التعرية للانطلاق. قال ثعلب : تقول فسرت الفرس عريته لينطلق في حصره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.
وأما الرسم في الاصطلاح ، فنقول : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب ، وتتمات لذلك. فقولنا علم هو جنس يشمل سائر العلوم. وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات. وقولنا ومدلولاتها ، أي مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية هذا يشمل علم التصريف ، وعلم الإعراب ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة ، وما دلالته عليه بالمجاز ، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا ، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد ، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر ، وهو المجاز. وقولنا ، وتتمات لذلك ، هو معرفة النسخ ، وسبب النزول ، وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ، ونحو ذلك.
__________________
(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٣.