خبيث الثرى كأبي الأزيد
وهذا كله تعليل شذوذ. وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارئ هنا كلاما حسنا هذا نصه. فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت ، (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١) ، ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب : أبلد من ثور ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ، انتهى كلامه.
(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح. فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم. والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليهالسلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس ، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل ، والمأمور بقتل أنفسهم عبّاد العجل ، أو من عبد ومن لم يعبد. والمعنى : اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم ، كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٢) ، أي من أهلكم وجلدتكم ، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم ، ثلاثة أقوال. وقال ابن إسحاق : أمروا بأن يستسلموا للقتل ، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز. وقيل : معنى فاقتلوا أنفسكم : ذللوا أهواءكم. وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل ، ومنه أيضا قول حسان :
إن التي عاطيتني فرددتها |
|
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل |
فتلخص في قوله : (فَاقْتُلُوا) ، ثلاثة أقوال : الأول : الأمر بقتل أنفسهم. الثاني : الاستسلام للقتل. والثالث : التذليل للأهواء. والأول هو الظاهر ، وهو الذي نقله أكثر الناس. وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم ، فقيل : وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم. وقيل : قتل بعضهم بعضا من غير تعيين قاتل ولا مقتول. وقيل : القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون ، والمقتولون عباد العجل. وقيل : القاتلون هم الذين كانوا مع
__________________
(١) سورة الملك : ٦٧ / ٣.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.