ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه ، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله : (أَنْفُسَهُمْ) ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل ، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل ، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيدا لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريّا ، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد ، وذلك أنك تقول : ما ضربت زيدا ولكن ضربت عمرا ، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد ، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافيا لما قبلها ، ولذلك يجوز أن تقول : ما ضربت زيدا ولكن عمرا ، فلست مضطرا لذكر العامل. فلما كان معنى قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) في معنى : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطرا إليه ، إذ لو قيل : وما ظلمونا ولكن أنفسهم ، لكان كلاما عربيا ، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها ، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولا منها : أمر موسى ، على نبينا وعليهالسلام ، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله ، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه ، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم ، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعا عليهم ، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم ، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته ، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه ، وهو رؤية الله عيانا ، لأنه كان سؤال تعنت. ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم. ثم الإنعام عليهم بالبعث ، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات. ثم إسعافهم بما سألوه ، إذ وقعوا في التيه ، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس ، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها ، فظلل عليهم الغمام ، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه ، فكان على ما قيل : تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينوّر عليهم القمر. وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذا من أشرف المأكول ، إذ جمع بين الغذاء والدواء ، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى ، وهما مقمعا الحرارة ومثيرا القوّة للبدن. ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان ، بل ذلك أمر مطلق. ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات. ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله