(مِنْ رِزْقِ اللهِ) ، من : لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتبعيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف ، أضيفا إلى الله تعالى ، وهذا التفات ، إذ تقدم فقلنا : اضرب ، ولو جرى على نظم واحد لقال : من رزقنا ، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى ، أي وقال موسى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فلا يكون فيه التفات ، ومن رزق الله متعلق بقوله : واشربوا ، وهو من أعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة ، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه ، فكان يكون : كلوا واشربوا منه ، من رزق الله ، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم ، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق ، وهو الطعام من المن والسلوى ، والمشروب من ماء العيون. وقيل : هو الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، وهذا القول يكون فيه من رزق الله ، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز ، لأن الشرب من الماء حقيقة ، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء ، لا أن الأكل من الماء حقيقة ، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول.
ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى ، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى ، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا ، واختص بالإضافة للفظ الله ، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد ، الجامع لسائر الأسماء (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) (١) ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) (٢) ، (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٣) ، و (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٤) ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) (٥)؟ واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال ، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة ، واقتضى أن يكون الرّزق مباحا ، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما ، وأنه غير جائز. والجواب : إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق ، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام ، وشرب المستلذ من الشراب ، والجمع بين اللونين والمطعومين ، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحب الحلواء والعسل ، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب ، وكانت تنبذ له فيه التمرات ، وجمع بين القثاء والرطب ، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل
__________________
(١) سورة الروم : ٣٠ / ٤٠.
(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٤.
(٣) سورة النمل : ٢٧ / ٦٤.
(٤) سورة يونس : ١٠ / ٣١.
(٥) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠ ـ ٦٤.