عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله ، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب ، كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب ، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية ، والقوّة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك ، وهو الفساد ، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها ، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية : معناه ولا تسعوا. وقال قتادة : ولا تسيروا. وقيل : لا تتظالموا الشرب فيما بينكم ، لأن كلّ سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل : معناه : لا تؤخروا الغذاء ، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل : معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل : معناه لا تتمادوا في فسادكم. وقيل : لا تطغوا ، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. (فِي الْأَرْضِ) : الجمهور على أنها أرض التيه ، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم ، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل : لاستغراق الجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين : حال مؤكدة.
قال القشيري ، في قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى) الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى عليهالسلام في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا ، نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه ، غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكر وحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر ، فقال : (وَلا تَعْثَوْا). والمناهل مختلفة ، وكل يرد مشربه : فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، ومشرب رنق ، وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مشارب التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف ، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصا.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) : لما سئموا من الإقامة في التيه ، والمواظبة على مأكول واحد ، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ،