التفاتا ، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) إلى الغيبة في قوله : (يَعْلَمُونَ). وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم ، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب ، وجعلهم كالغائبين عنه ، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه ، وتأنيس له ، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب ، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولا عظيمة ، ومحاورات كثيرة ، وذلك أن موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة ، وذلك امتحان من الله تعالى لهم ، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى ، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ ، إذ لم يفهموا سر الأمر. وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال ، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل ، فيخبر عن الله بما لم يأمره به ، فردّ عليهم بأن استعمال الهزء في التبليغ عن الله تعالى ، وفي غيره ، وهو يستعيذ منه ، فرجعوا إلى قوله ، وتعنتوا في البقرة ، وفي أوصافها ، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة ، إذ المأمور به بقرة مطلقة ، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم ، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم ، فأخبر عن الله تعالى بسنها. ثم خاف من كثرة سؤالهم ، ومن تعنتهم ، كما جاء ، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون ، حتى قطع سؤالهم ، فلم يلتفتوا إلى أمره ، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانيا عن لونها ، إذ قد أخبروا بسنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها ، ولم يأمرهم ثانيا أن يفعلوا ما يؤمرون به ، إذ علم منهم تعنتهم ، لأنهم خالفوا أمر الله أولا في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، وخالفوا أمر موسى ثانيا في قوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ). فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال. فسألوا ثالثا أن يسأل الله عنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها ، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة ، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالا لأمر الله تعالى ، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم ، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها ، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس ، وتدافعهم فيمن قتلها ، واختلافهم في ذلك ، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة ، فضربوه فحيي بإذن الله ، وانكشف لهم سرّ أمر الله بذبح البقرة ، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق ، ما