أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك. واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ؟ فقال قوم : نسخ ، لأنه كان يفعل ذلك صلىاللهعليهوسلم ، تأليفا للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم : هو باق إلى الآن ، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر. وفي قوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات.
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) : ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه ، قاله ابن عباس. وقيل : في المجوس ، قاله عليّ بن أبي طالب. وقيل : في اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضحاك : في نصارى العرب ، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل : في قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا أمّيين. وقيل : في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول ، فكتبوا كتابهم وقالوا : هذا من عند الله ، فسموا : أمّيين ، لجحودهم الكتاب ، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئا. والقول الأول هو الأظهر ، لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود ، فالضمير لهم.
ومناسبة ارتباط هذه الآية : أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله ، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ، ثم بين أمر الفرقة الثانية ، المنافقين ، وأمر الثالثة : المجادلة ، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة ، وهي : العامة التي طريقها التقليد ، وقبول ما يقال لهم. قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : أميون ، بتخفيف الميم ، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، أي لا يحسنون الكتب ، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها. و (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) : جملة في موضع الصفة ، والكتاب هو التوراة.
(إِلَّا أَمانِيَ) : استثناء منقطع ، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيما؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان ، أحدهما : النصب على الاستثناء ، وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني : الاتباع على البدل بشرط التأخر ، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين ، والمعنى : إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء