لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب. وقرأ الجمهور : يردّون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : (مَنْ يَفْعَلُ). ويحتمل أن يكون التفاتا ، فيكون راجعا إلى قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ) ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردّون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ). ويحتمل أن يكون التفاتا بالنسبة إلى قوله : (مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوال خمسة. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل (أَفَتَطْمَعُونَ). وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق. فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبا في الآية. قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلىاللهعليهوسلم. فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمّة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة. وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) (١) ، وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيها على أنه هو جامع تلك الأوصاف. والذين : خبر عن أولئك ، وتقدّم الكلام في قوله : (اشْتَرَوُا) ، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضا ومعوّضا أعيانا. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثارا للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.
قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا : ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة : ما
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٥.