ألف عبد ، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم ، فقال : من أعمد سيفه فهو حرّ. فصبر حتى قتل. وأما سعيد ، فإن الموكلين به ، لما طلبه الحجاج ، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به ، قالوا : لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح ، قالوا له : طلبك ليقتلك ، فاذهب حيث شئت ، ونحن نكون فداءك. فقال : لا والله ، إني سألت ربي الشهادة ، وقد رزقنيها ، والله لا برحت. وروي عن النبي ، صلىاللهعليهوسلم : «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي». وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات. ففعل النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله.
(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١) ، وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبدا ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبدا ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد. وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبدا إذ ذاك مفيدا لاستغراق الأزمان. ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم.
وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ، وفي الجمعة (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) (٢) ، لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها لنفي الأعظم. انتهى كلامه. قال المهدوي في (كتاب التحصيل) من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلىاللهعليهوسلم. ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلا على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك. انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين.
قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت ، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤.
(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٧.