فعداوته لا وجه لها ، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن. ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوّا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه.
(عَلى قَلْبِكَ) : أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلغ من إلى ، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث : «إن في الجسد مضغة».
ثم قال أخيرا : «ألا وهي القلب».
أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (١) (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٢) ، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا ، لأن قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد قال الله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق :
ألم تر أني يوم جوّ سويقة |
|
دعوت فنادتني هنيدة ماليا |
__________________
(١) سورة طه : ٢٠ / ٢.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١١٣.