تعالى هو من باب فسق العقائد ، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن : إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي ، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله : بينات لفظ الكفر ، وهو التغطية ، لأن البين لا يقع فيه إلباس ، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين ، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه ، والألف واللام في الفاسقون ، إما للجنس ، وإما للعهد ، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر ، لأن الفسق : خروج الإنسان عما حدّ له. وقد تقدّم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه ، فكأنه قيل : وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره ، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون : استثناء مفرغ ، إذ تقديره : وما يكفر بها أحد ، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد ، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء ، فأجاز : ما قام إلا زيدا ، على مراعاة ذلك المحذوف ، إذ لو كان لم يحذف ، لجاز النصب ، ولا يجيز ذلك البصريون.
(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) : نزلت في مالك بن الصيف ، قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا ميثاق. وقيل في اليهود : عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء : هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها ، كفعل قريظة والنضير. قال تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ) (١). وقرأ الجمهور : أو كلما ، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل : هي زائدة ، قاله الأخفش. وقيل : هي أو الساكنة الواو ، حركت بالفتح ، وهي بمعنى بل ، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل : واو العطف ، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين : أن الأصل تقديم هذه الواو ، والفاء ، وثم ، على همزة الاستفهام ، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وأن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفا معطوفا عليه ، مقدّرا بين الهمزة وحرف العطف ، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ (وَكُلَّما عاهَدُوا) (٢). وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). والمراد بهذا الاستفهام : الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها ، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترث بأمرهم ، وأن لا يصعب ذلك ، فهي تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم ، إذ كفروا بما أنزل
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٥٦.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٠.