التوراة ، أقوال أربعة. وإذا فسر بعيسى ، فتصديقه هو بالتوراة ، وإذا فسر بالرسالة ، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز. وقرأ ابن أبي عبلة : مصدّقا بالنصب على الحال ، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١). (لِما مَعَهُمْ) : هو التوراة. وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب ، كزبور داود ، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.
(نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة ، وهو مفعول ثان لأوتوا ، على مذهب الجمهور ، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. (كِتابَ اللهِ) : هو مفعول بنبذ. فقيل : كتاب الله هو التوراة. ومعنى نبذهم له : اطراح أحكامه ، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذ الكفر ببعض ، كفر بالجميع. وقيل : الإنجيل ، ونبذهم له : اطراحه بالكلية. وقيل : القرآن ، وهذا أظهر ، إذ الكلام مع الرسول. فصار المعنى : أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة ، وهم بالعكس ، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه. وأضاف الكتاب إلى الله تعظيما له ، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق ، فصار ذلك غاية في ذمهم ، إذ جاءهم من عند الله بكتابه المصدّق لكتابهم ، وهو شاهد بالرسول والكتاب ، فنبذوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة. تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق :
تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي |
|
بظهر ولا يعيا عليك جوابها |
وقالت العرب ذلك ، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه ، ومنه : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) (٢). وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة ، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس ، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
(كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : جملة حالية ، وصاحب الحال فريق ، والعامل في الحال نبذ ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. ومتعلق العلم محذوف ، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه ، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٩.
(٢) سورة هود : ١١ / ٩٢.