يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم. وكان ذكر التنزيه أسبق ، لأن فيه ردعا لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله. والولادة تنافي الملكية ، لأن الوالد لا يملك ولده. وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والده أو ولده أو أحدا من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه. ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له. وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعا لمالكه ، ممتثلا لما يريده منه. واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد. وأتى بلفظ ما في قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وإن كانت لما لا يعقل ، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما. ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، كقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١). انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركنّ لنا. يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى. وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعا على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل ، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يؤول ، فيؤول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر
__________________
(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٥٨.