(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي أوضحنا الآيات ، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها ، إنما هو على سبيل التعنت. هذا ، وهي آيات مبينات ، لا لبس فيها ، ولا شبهة ، لشدة إيضاحها. لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقنا ، أما من كان في ارتياب ، أو شك ، أو تغافل ، أو جهل ، فلا ينفع فيه الآيات ، ولو كانت في غاية الوضوح. ألا ترى إلى قولهم : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١)؟ وقول أبي جهل ، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر ، فأخبروه به ، فقال بعد ذلك : هذا سحر مستمر. ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون ، قال في آخرها : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). والإيقان : وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم ، أي من كان موقنا ، فقد أوضحنا له الآيات ، فآمن بها ، ووضحت عنده ، وقامت به الحجة على غيره. وفي جمع الآيات رد على من اقترح آية ، إذ الآيات قد بينت ، فلم يكن آية واحدة ، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها ، بل ذلك جمع آيات بينات ، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) : بشيرا لمن آمن ، ونذيرا لمن كفر. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر أنه بين الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبه صلىاللهعليهوسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) ، أي بالآيات الواضحة ، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام. وبالحق في موضع الحال ، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيرا ونذيرا على الحال من الكاف ، ويحتمل أن يكون حالا من الحق ، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضا بالبشارة والنذارة. والأظهر الأول. وعدل إلى فعيل للمبالغة ، لأن فعيلا من صفات السجايا ، والعدل في بشير للمبالغة ، مقيس عند سيبويه ، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففا ، وليس مقيسا في نذير لأنه من أنذر ، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفا على ما يجوز ذلك فيه ، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت ، كما قالوا : أخذه ما قدم وما حدث وشبهه.
(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) : قراءة الجمهور : بضم التاء واللام. وقرأ أبي :
__________________
(١) سورة الحجر : ١٥ / ١٥.