(إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) : هذا استثناء مفرّغ ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغا وأن إلّا زائدة ، والدعاء والنداء منفي سماعهما ، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء ، وهذا ضعيف ، لأن القول بزيادة إلا ، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي ، رحمهالله ، إلى ذلك في قوله :
حراجيج ما تنفك إلا مناخة |
|
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا |
وضعف قوله في ذلك ، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به ، فنثبت لها الزيادة ، وأورد بعضهم هنا سؤالا فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء ونداء ، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز. فالجواب : أن في الكلام إيجارا ، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم ، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها ، وإنما يفهم شيئا يسيرا ، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض. انتهى كلامه. وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) ، لأن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصوت. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) : تقدم الكلام على هذه الكلم. (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس ، قضى بأنهم لا يعقلون. كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس ، إذ لا بد في كسبها من الحواس. انتهى. قيل : والمراد العقل الاكتسابي ، لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم ، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب. ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث ، كان إعراضهم عنها فقدا للعقل المكتسب ، ولهذا قيل : من فقد حسا فقد فقد عقلا.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل. فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل قوله صلىاللهعليهوسلم ، لما سئل عما يلبس المحرم فقال : «لا يلبس القميص ولا السراويل» ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ. والذين آمنوا : جمع من آمن برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص. وقيل : هذا الخطاب مؤكد لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ).