مقالتهم ، ورد عليهم إنكارهم. والمعنى : أن الجهات كلها لله تعالى ، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها ، وأن تجعل قبلة. وقد تقدم الكلام على قوله : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، فأغنى عن الإعادة هنا. وقد شرح المشرق بيت المقدس ، والمغرب بالكعبة ، لأن الكعبة غربي بيت المقدس ، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها. (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي من يشاء هدايته. وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) ، فأغنى عن إعادته : وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه ، وهنا عدى بإلى. وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها ، فقيل : الصبح ، وقيل : الظهر ، وقيل : العصر. وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة ، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل ، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع ، ولا قاد نحوها العقل ، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا ، على عادتنا في ذلك. ومن طلب للوضعيات تعاليل ، فأحرى بأن يقلّ صوابه ويكثر خطؤه. وأما ما نص الشرع على حكمته ، أو أشار ، أو قاد إليه النظر الصحيح ، فهو الذي لا معدل عنه ، ولا استفادة إلا منه. وقد فسر قوله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بأنه القبلة التي هي الكعبة. والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه ، فالكعبة من بعض مشروعاته.
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) : الكاف : للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة ، والكاف في موضع نصب ، إما لكونه نعتا لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالا. والمعنى : وجعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك ، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم ، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك ، لكن تقدم لفظ يهدي ، وهو دال على المصدر ، وهو الهدى ، وتبين أن معنى (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : يجعله على صراط مستقيم ، كما قال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢). قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم ، إذ ذلك الجعل هو الهداية ، فكذلك معنى الهدى هنا هو ذلك الجعل. وتبين أيضا من قوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) إلى آخره ، أن الله جعل قبلتهم خيرا من قبلة اليهود والنصارى ، أو وسطا. فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك. فقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطا بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطا ، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي ، أي جعلناكم أمة
__________________
(١) سورة الفاتحة : ١ / ٦.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٩.