عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان عاصيا. وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ، لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بهم. أو لأن المخاطب ، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفور له ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة. أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك ..
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) : روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود ، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم. فلما بعث من غيرهم ، غيروا صفته وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، حتى لا يتبعوه. وروي عنه أنه قال : إن الملوك سألوا علماء هم قبل المبعث : ما الذي تجدون في التوراة؟ فقالوا : نجد أن الله يبعث نبيا من بعد المسيح يقال له محمد ، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء. فلما بعث ، قالت الملوك لليهود : هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالوا ، طمعا في أموال الملوك : ليس هذا بذلك النبي. فأعطاهم الملوك الأموال ، فأنزلت إكذابا لهم. وقيل : نزلت في كل كاتم حق ، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل. وإن صح سبب نزول ، فهي عامة ، والحكم للعموم. وإن كان السبب خاصا ، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك ، لسبب دنيا يصيبها.
(ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) : ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل ، وأنه تعالى أنزل ملكا به ، أي بالكتاب على رسوله. وقيل : معنى أنزل الله ، أي أظهر ، كقوله : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) (١) ، أي أظهر. فكون المعنى : أن الذين يكتمون ما أظهر الله ، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان. وفي المراد بالكتاب هنا أقوال : أحدها : أنه التوراة ، فيكون الكاتمون أحبار اليهود ، كتموا صفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وغيروها ، وكتموا آيات في التوراة ، كآية الرجم
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٣.