الدنيا ، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة ، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة ، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى. وسبب النعيم الأطول السرمدي ، العذاب الأطول السرمدي ، الذي هو نتيجة الضلالة ، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق ، وكتموه لغرض خسيس دنياوي. فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة. وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب.
(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) : اختلف في ما ، فالأظهر أنها تعجبية ، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١) ، (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (٢). وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا ، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور ، والثاني قول الفراء وابن درستويه ، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية ، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين ، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده ، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟ وإذا قلنا : إن الكلام هو تعجب ، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، فهو راجع لمن يصح ذلك منه ، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم : ما أصبرهم على النار! واختلف قائلو التعجب ، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال : إذا قيل لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٣) ، سكتوا وانقطع كلامهم ، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص. وضعف قول الأصم ، بأن ظاهر التعجب ، أنه من صبرهم في الحال ، لا أنهم سيصبرون ، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع. وقيل : الصبر مجاز عن البقاء في النار ، أي ما أبقاهم في النار. أم هو صبر يوصفون به في الدنيا؟ وهو قول الجمهور. واختلف ، أهو حقيقة أم مجاز؟ والقائلون بأنه حقيقة ، قالوا : معناه ما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار ، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي صلىاللهعليهوسلم صار إلى النار ، قاله المؤرج. وقيل : التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار ، كما تقول : ما أشبه
__________________
(١) سورة عبس : ٨٠ / ١٧.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣٨.
(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.