بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيدا ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلا ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم ؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان. وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطا بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع. ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد صلىاللهعليهوسلم فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس. وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته. وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهادا ، أو شاهدا. وقد استدل بقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيدا : مزكيا لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم.
(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها). والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلا عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلا ، لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا ، وجعلت الجاهل عالما؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولا ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يصلي بمكة إلى