هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن. وتقدّم الترجيح في ذلك.
وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافا كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١) وقال هنا : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) والتقوى لا تحصل إلّا بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمنا إذ جاء معها : هو المتقي.
وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب.
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).
(وَاتَّقُوا اللهَ) : أمر باتقاء الله ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام.
ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا الله ، على من يتقي ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية.
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. قال ابن عباس : نزلت لما صدّ المشركون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ، ويصدوهم ، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت. وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك ، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها ، لأن ما قبلها متضمن شيئا من متعلقات الحج ، ويظهر أيضا أن المناسب هو : أنه لما أمر تعالى بالتقوى ، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.