تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ) ، ثم قال : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ) إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات. ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام ، رضياللهعنهما ، وقال : إن الله قد أنزل على نبيه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) الآية ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد صلىاللهعليهوسلم أشدّ من معرفتي بابني. فقال عمر : وكيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقا ، وقد نعته الله في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء. فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصرا بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه. وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب. وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوّته. وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضا ، وابن جريج والربيع. وقيل : عائد على القرآن. وقيل : على العلم. وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ، لأنه قال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.
(كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفانا مثل عرفانهم. أبناءهم : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلىاللهعليهوسلم ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها