يكون معمولا ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فبه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك : لا تكن ظالما ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك : لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموما ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (١) ، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) (٢). والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كأن فيه نصا على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلا من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته. ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك. وقرأ الجمهور : ولكل : منونا ، وجهة : مرفوعا ،
__________________
(١) سورة يونس : ١٠ / ٩٥.
(٢) سورة هود : ١١ / ١٧.