تربص المدة المشروعة بأسرها ، لأن الفيئة تكون فيها ، والعزم بعدها ، لأن هذا التقييد. المغاير لا يدل عليه اللفظ ، وإنما تطابق الآية أن نقول : للضيف إكرام ثلاثة أيام ، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون ، وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل. فالذي يتبادر إليه الذهن أن الشرطين مقدران بعد إكرامه الثلاثة الأيام ، وأما أن يكون المعنى : فإن أقام في مدة الثلاثة الأيام ، وإن عزم على الرحيل بعد ذلك ، فهذا الاختلاف في الطرفين لا يتبادر إليه الذهن ، وإن كان مما يحتمله اللفظ ، وفرق بين الظاهر والمحتمل ، ولا يفرق بين الآية وتمثيل الزمخشري إلّا من ارتاض ذهنه في التراكيب العربية ، وعرى من حمل كتاب الله على الفروع المذهبية ، باتباعه الحق واجتنابه العصبية.
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ذكر بعضهم في سبب نزول هذه الآية ما لا يعد سببا ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جدا ، لأنه حكم غالب من أحكام النساء ، لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائما ، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة ، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور ، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر ، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء ، فناسب ذكرها بعقبها ، وظاهر : والمطلقات ، العموم ، ولكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء ، لأن حكم غير المدخول بها ، والحامل ، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء.
وروي عن ابن عباس وقتادة أن الحكم كان عاما في المطلقات ، ثم نسخ الحكم من المطلقات سوى المدخول بها ذات الأقراء ، وهذا ضعيف ، وإطلاق العام ويراد به الخاص لا يحتاج إلى دليل لكثرته ، ولا أن يجعل سؤالا وجوابا. كما قال الزمخشري ، قال : فإن قلت كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم. قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس ، صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. انتهى.
وما ذكره ليس بصحيح ، لأن دلالة العام ليست دلالة المطلق ، ولا لفظ العام مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، بل هي دلالة على كل فرد فرد ، موضوعة لهذا المعنى ، فلا يصلح لكل الجنس وبعضه ، لأن ما وضع عاما يتناول كل فرد فرد ، ويستغرق الأفراد لا يقال فيه : إنه صالح لكله وبعضه ، فلا يجيء في أحد ما يصلح له ، ولا هو كالاسم المشترك ، لأن الاسم المشترك له وضعان وأوضاع بإزاء مدلوليه أو مدلولاته ، فلكل مدلول وضع ، والعام ليس له إلّا وضع واحد على ما أوضحناه ، فليس كالمشترك.