وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولا بجملة الذكر ، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر ، لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي ، لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران ، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (١) ، فأغنى عن إعادته هنا.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف ، وهو الإيمان مجعولا فعلا ماضيا في صلة الذين ، دالا على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم ، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق ، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة ، وهو أمر قلبي ؛ والصلاة ثمرته ، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرا ، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة ، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله ، بعد : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ) ، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).
(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) : أي بالمعونة والتأييد ، كما قال : اهجهم ، وروح القدس
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٤١.