الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه ، والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه ، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها أن : من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن : من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك ، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة. وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلّا من اغترف غرفة بيده فشربها ، أو للشرب.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر ، و : غرفة ، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما تحمله اليد ، فإذا كان مصدرا فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف محذوفا ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولا به ، قال ابن عطية : وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضا : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة.
ويتعلق : بيده ، بقوله : اغتراف. قيل : ويجوز أن يكون نعتا لغرفة ، فيتعلق بالمحذوف. وظاهر : غرفة بيده ، الاقتصار على غرفة واحدة ، وأنها تكون باليد ، قال ابن عباس ، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال مقاتل : ويملأ منها قربته ، قيل : فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء ، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان. قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر واليقظة ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه ، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان.
(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي : كرعوا فيه ، ظاهره أن الأكثر شربوا ، وإن القليل لم يشربوا ، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم ، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه ،