ووقع به المخالفة ، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه ، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم يطعمه البتة والثانية : الذين : اغترفوا بأيديهم ، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس ، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله ، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة. وقيل : الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم ، فلم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا عن لقاء العدو ، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلّا القليل الذين لم يشربوا. والقليل المستثنى أربعة آلاف ، قاله عكرمة ، والسدّي ، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقرأ عبد الله ، وأبيّ والأعمش : إلا قليل ، بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم مع المعنى ، والإعراض عن اللفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان معنى : فشربوا منه ، في معنى : فلم يطيعوه ، حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلّا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق :
(وعض زمان يا بن مروان) لم يدع |
|
من المال إلّا مسحتا أو مجلف |
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت ، أو مجلف انتهى كلامه.
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه ، هو في معنى المنفي ، كأنه قيل : فلم يطيعوه ، فارتفع : قليل ، على هذا المعنى ، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد : إلّا ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى ، فالموجب فيه كالمنفي ، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد : إلّا ، على التأويل هنا ، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب ، فلذلك تأوله.
ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد : إلّا ، وجهان : أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح : والثاني : أن يكون ما بعد : إلّا ، تابعا لإعراب المستثنى منه ، إن رفعا فرفع ، أو نصبا فنصب ، أو جرا فجر ، فتقول : قام القوم إلّا زيد ، ورأيت القوم إلّا زيدا ، ومررت بالقوم إلّا زيد : وسواء كان ما قبل : إلّا ، مظهرا أو مضمرا. واختلفوا في إعرابه ، فقيل : هو تابع على أنه نعت لما قبله ، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة.