الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم ، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى ، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس ، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه ، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد ، تنبيها على ذلك الوصف القبيح ، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيدا وتعظيما ، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ). ولذلك أتى صلة الذين فعلا مضارعا ليدل أيضا على التجدد ، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله ، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية ، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات ، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق ، لكان أولئك يلعنهم ، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون : كل من يتأتى منهم اللعن ، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين ، قاله الربيع بن أنس ؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين ، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب ، إذا وضع في قبره وعذب فصاح ، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين ؛ أو البهائم والحشرات ، قاله مجاهد وعكرمة ، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين ، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها ، لأن اللعن هو الطرد ؛ أو الملائكة ؛ قاله قتادة ؛ أو المتلاعنون ، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود ، قاله ابن مسعود ؛ والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل ، إذ صدرت منه اللعنة ، وهي من فعل من يعقل ، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، ضرب من البديع ، وهو التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسما والأخرى فعلا.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) : هذا استثناء متصل ، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام ، أو عن الكتمان إلى الإظهار. (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها ، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله ، أو أصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال. (وَبَيَّنُوا) : أي الحق الذي كتموه ، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها ، أو ما في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم ، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم ، أو ما أحدثوا من توبتهم ، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. (فَأُولئِكَ) : إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) : أي أعطف عليهم ، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة. (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) :