النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين.
والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكا له لأنه تعالى هو المنشئ له ، الخالق. وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة. وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة.
(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام. بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلّا بعد إيجاده ، فعلمه محدث. وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة ، أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب ، قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (١).
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد. وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم. انتهى كلامه. وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم ، رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم» وقال : «إن تظهروا العمل أو تسروه»
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٥.