منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (١) ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين. أحدهما : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع. والموضع الثاني : (وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :
في تاجه قمر في ثوبه بشر |
|
في درعه أسد تدمي أظافره |
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :
فالنحر مرمرة والنشر عنبرة |
|
والثغر جوهرة والريق معسول |
(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرأوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولا منهم. ولو : هنا للتمني. قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : (فَنَتَبَرَّأَ) ، كما جاء جواب ليت في قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) (٢) ، وكما جاء في قول الشاعر :
فلو نبش المقابر عن كليب |
|
فتخبر بالذنائب أي زير |
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله :
بيوم الشعثمين لقر عينا |
|
وكيف لقاء من تحت القبور |
وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :
يا ليت أنا ضمنا سفينه |
|
حتى يعود البحر كينونه |
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضا ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جوابا للو التي
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٧.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٧٣.