الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالاسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة. كقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (١) فكذلك الحال ، بدىء بالاسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد ، كما أن الاسم يشعر بالثبوت ، ويتعلق : في المهد ، بمحذوف إذ هو في موضع الحال ، التقدير : كائنا في المهد وكهلا ، معطوف على هذا الحال ، كأنه قيل : طفلا وكهلا ، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكسا : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) (٢) ومن زعم أن : وكهلا ، معطوف على : وجيها ، فقد أبعد.
والمهد : مقر الصبي في رضاعه ، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها ، أي : وطأت ، ويقال : أمهد الشيء ارتفع.
وتقدم تفسير : الكهل لغة. وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير باللازم غالبا ، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته ، فلا يكون في ذلك كالشارخ ، والعرب تتمدح بالكهولة ، قال :
وما ضر من كانت بقاياه مثلنا |
|
شباب تسامى للعلى وكهول |
ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر ، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي ، وفي قوله : وكهلا ، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة ، قاله الربيع ، ويقال : إن مريم ولدته لثمانية أشهر ، ومن ولد لذلك لم يعش ، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهد مات ، وفي قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) إشارة إلى تقلب الأحوال عليه ، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاما به أنه يكتهل ، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه : في المهد ، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق؟ أو كان يتكلم دائما في المهد حتى بلغ إبان الكلام؟ قولان : الأول : عن ابن عباس.
ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو مرضع ، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في المهد نبيا لقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣) ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل : لم يكن نبيا في ذلك الوقت ، وإنما كان الكلام تأسيسا لنبوته ، فيكون
__________________
(١) سورة غافر : ٤٠ / ٢٨.
(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٧.
(٣) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.