اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس. وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام. قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (١) أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقول نوح ، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٢) انتهى.
قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدى ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.
قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك.
قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر. انتهى كلام ابن عطية. وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام.
وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٣) وبين قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ).
(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بها بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور. كما قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٤) أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله. واختار هذا القول الأخير ابن عطية. قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه
__________________
(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.
(٢) سورة نوح : ٧١ / ٦.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢.
(٤) سورة النساء : ٤ / ١٦٣ والإسراء : ١٧ / ٥٥.