والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها. وحكم عليهم بأنهم خير أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل. وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سبب في إيجادها ، إذ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا».
ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به. وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره اسما ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفا ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف. ومنه (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (١) وأنك امرؤ فيك جاهلية :
وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية |
|
كأنك منها قاعد في جوالق |
وتارة يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة. فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربيا فصيحا. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده. وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت. وقيل : متعلق بخير. ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر. وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف. فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٢) أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد. تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع. أو مخرج الشرط في الخيرية ، روي هذا المعنى عن : عمر ، ومجاهد ، والزجاج. فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم
__________________
(١) سورة النمل : ٢٧ / ٤٧.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤٣.