وأما كونه خارجا عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد ، والمفعول متأخر ، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجا عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام ، لا بأن ، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله : ليبين لكم ، لام العاقبة ، قال : كما في قوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) ولم يذكر مفعول يبين.
قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم. وقال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير. وقيل : ما فصل من المحرمات والمحللات. وقيل : شرائع دينكم ، ومصالح أموركم. وقيل : طريق من قبلكم إلى الجنة. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال ، فيكون مفعول ليبين ضميرا محذوفا يفسره مفعول ويهديكم ، نحو : ضربت وأهنت زيدا ، التقدير : ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.
والسنن : جمع سنة ، وهي الطريقة. واختلفوا في قوله : سنن الذين من قبلكم ، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟ أو على التشبيه؟ أي : سننا مثل سنن الذين قبلكم. فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل : المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٢) وقيل : المراد بها ما ذكره في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (٣) وقيل : طرق من قبلكم إلى الجنة. وقيل : مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين ، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ، وهذا قريب مما قبله. وعلى هذه الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير. وقيل : المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي ، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل ، وتتبعوا الحق.
والذين قالوا : إنّ ذلك على التشبيه قالوا : إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وبيان الأحكام ، وكذلك جعل طريقكم أنتم. فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل ، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين. وقيل : الهداية في أحد أمرين : أما أنا خوطبنا في كل قصة نهيا أو أمرا
__________________
(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨.
(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٢٣.
(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.