لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم ، لأنّ عذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه ، ولا قادرين ، كما لا يقال للأعمى : ماذا عليه لو أبصر ، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا. وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات ، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه. وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر : الجبرية ، والقدرية ، والمعتزلة ، وأهل السنة. قال ابن عطية : والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان ، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى. ولما وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه ، فبدأ أولا بالبخل ، ثم بالأمر به ، ثم بكتمان فضل الله ، ثم بالإنفاق رياء ، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر. ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية ، ثم عطف عليه الإنفاق أي : في سبيل الله ، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل ، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.
(وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم.
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهو في : نصيب مما اكتسبوا ، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة : في واسئلوا الله ، إن الله ، وحكما من أهله ، وحكما من أهلها ، وبعضكم على بعض ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفوا مما رزقهم الله وقرينا وساء قرينا. والجلالة في : مما رزقهم الله ، وكان الله. والتجنيس المغاير في : حافظات للغيب بما حفظ الله ، وفي : يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في : قانتات حافظات. والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في : وبالوالدين إحسانا وما بعده. والطباق المعنوي في : نشوزهنّ فإن أطعنكم ، وفي : شقاق بينهما ويوفق الله. والاختصاص في قوله : من أهله ومن أهلها ، وفي قوله : عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله : به شيئا وإحسانا ، وما ملكت فشيوع شيئا وإحسانا وما واضح. والتعريض في : مختالا فخورا. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في :