المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن. ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفا لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوها والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة. وبديع المحاورة.
(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة. وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده. وقيل : معناه أنّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله. وقال : وكان إخبارا عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة ، وأنّ ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد. ولذلك قال الزمخشري : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني : الطمس واللعنة.
(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضياللهعنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (١) الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلو لا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ) (٢) الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت :
__________________
(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ٦٠.