أخبر تعالى أنّ الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء رسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف وهو المجاوزة في الحد ، فخالفوا هذا المقتضى. والعامل في بعد ، والمتعلق به في الأرض خبر إن ، ولم تمنع لام الابتداء من العمل في ذلك وإن كان متقدما ، لأنّ دخولها على الخبر ليس بحق التأصل ، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات ، والمراد بالأرض أي : حيث ما حلوا أسرفوا. وظاهر الإسراف أنه لا يتقيد. وقيل لمسرفون أي : قاتلون بغير حق كقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (١). وقيل : هو طلبهم الكفاءة في الحسب حتى يقتل بواحد عدة من قتلتهم.
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) قال أنس بن مالك ، وجرير بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وابن جبير ، وعروة : نزلت في عكل وعرينة وحديثه مشهور. وقال ابن عباس فيما رواه عكرمة عنه : نزلت في المشركين ، وبه قال : الحسن وعطاء. وقال ابن عباس في رواية والضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين الرسول عهد فنقضوه ، وأفسدوا في الدّين. وقيل : نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر قتلوا قوما مرّوا بهم من بني كنانة يريدون الإسلام ، وأخذوا أموالهم ، وكان بين الرسول صلىاللهعليهوسلم وبين أبي بردة موادعة أن لا يعين عليه ، ولا يهيج من أتاه مسلما ففعل ذلك قومه ولم يكن حاضرا ، والجمهور على أنّ هذه الآية ليست ناسخة ولا منسوخة. وقيل : نسخت ما فعل النبي صلىاللهعليهوسلم بالعرنيين من المثلة ، ووقف الحكم على هذه الحدود.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض ، أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو ، فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل ، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام. ومذهب مالك وجماعة : أن المحارب هو من حمل السّلاح على الناس في مصر أو برية ، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ، ولا دخل ولا عداوة. ومذهب أبي حنيفة وجماعة : أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر ، وأمّا في المصر فيلزمه حدّ ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك ، وأدنى الحرابة إخافة الطريق ثم أخذ المال مع الإخافة ، ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل
__________________
(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٣.