للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى ، ويحتمل أن يكونا هما اللاعنان لهم. ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء ، أخبروا أنّ الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم. واللعنة هي الطرد من رحمة الله ، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ. والأفصح أنه إذا فرق منضما الجزئين اختير الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع ، فكذلك جاء على لسان مفردا ولم يأت على لساني داود وعيسى ، ولا على ألسنة داود وعيسى. فلو كان المنضمان غير متفرّقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١) والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة ، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى.
(ذلِكَ بِما عَصَوْا) أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم ، وذكر هذا على سبيل التوكيد ، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق به الوصف الدال على العلية ، وهو الذين كفروا. كما تقول : رجم الزاني ، فيعلم أنّ سببه الزنا. كذلك اللعن سببه الكفر ، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله : ذلك بما عصوا.
(وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على عصوا ، فيتقدر بالمصدر أي : وبكونهم يعتدون ، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر ، وينتهون إلى أقصى غاياته. ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء ، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله :
(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي : لا ينهى بعضهم بعضا ، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به ، وعدم النهي عنه. والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر ، فإذا فعلت جهارا وتواطؤا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضا على فعلها وسببا مثيرا لإفشائها وكثرتها. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية؟ (قلت) : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهي حسما للفساد. وفي حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا
__________________
(١) سورة التحريم : ٦٦ / ٤.